" من الشرير الحقيقي؟ "
تأليف: نوران طاهرتدقيق: لمّامتصميم غلاف/ موكاب: نوران طاهر/ زينبو مجاهد
في
عالم تهيمن عليه السرديات المُسبقة والأحكام الجاهزة، يأتي فيلم Wicked (2024)
ليقلب
الطاولة على كل ما اعتدنا عليه من قصص الخير والشر. ليس هذا مجرد إعادة سرد لحكاية
أرض أوز الكلاسيكية، بل رحلة عميقة في نفس الإنسان والمجتمع، تكشف كيف تُصنع
الأساطير وتُحرَّف الحقائق باسم السلطة والنظام.
البداية: عندما يصبح الاختلاف خطيئة
منذ ولادتها ببشرة خضراء اللون، كانت إلفابا محكومًا عليها بالنبذ. وكما تقول في لحظة مؤلمة من الصراحة:"لا، لم آكل العشب كطفلة. ونعم، لقد كنت دائمًا خضراء."
"لماذا تثيرين دائمًا نوعًا من الجلبة؟"
"أنا لا أثير الجلبة... أنا الجلبة بذاتها"
"يجب أن تكون الحيوانات قادرة على الكلام، والتعلُّم، والعيش بحرية. لماذا نصمتها؟"
"لا يزال بإمكانك أن تكوني مع الساحر، ما عملتِ وانتظرتِ من أجله. يمكنك أن تملكي كل ما تمنّيتِه..."
"أعرف... لكنني لم أعد أريده. لا... لا أستطيع أن أريده بعد الآن."
"إنها أنا. فإذا أردت أن تجدني، فانظر إلى السماء الغربية! لأن أحدهم قال لي مؤخرًا: الجميع يستحق فرصة ليطير."
"هذا ليس كذبًا... إنه مجرد النظر للأمور من زاوية مختلفة."
"لا يزال بإمكانك أن تكوني مع الساحر... هذا ما عملتِ وانتظرتِ من أجله."
"لستُ شجاعة مثلها."
جليندا تمثل كل
من يعرف الحقيقة لكنه يفتقر للشجاعة الأدبية للوقوف معها. وربما هذا ما يجعلها
الشخصية الأكثر إثارة للجدل في الفيلم، لأنها تعكس ضعفنا الإنساني وترددنا أمام
الخيارات الصعبة.
"لقد سئمت قبول الحدود لمجرد أن أحدهم قرر أنها موجودة."
"الجميع يستحق فرصة ليطير."
لم تختر شكلها، ولم تطلب أن تكون مختلفة، لكن المجتمع قرر أن الاختلاف تهديد يجب مواجهته بالسخرية والإقصاء. هنا تكمن المفارقة الأولى: الفتاة التي وُصِمت بالشر لم تحمل في قلبها سوى الرحمة والعدالة.
فتجيبه إلفابا بثقة لا تخلو من التحدي:
هذا الحوار يكشف طبيعتها الثورية، ورفضها الصريح للخضوع أو التنازل عن قناعاتها، مهما كلّفها ذلك.
لكن أهم ما ميزها، إلى جانب ذكائها، كان حسها العالي بالعدالة، خاصة تجاه الحيوانات الناطقة التي بدأت تفقد صوتها تدريجيًا في صمتٍ مريب.
الحلم المحطم: عندما تسقط الأقنعة:
كانت إلفابا تحلم بلقاء الساحر العظيم، معتقدة أنه الرجل القادر على إحقاق العدل وإنصاف المظلومين. هذا الحلم البريء يعكس إيمانها الطفولي بأن السلطة تعني المسؤولية، وأن القوة يجب أن تُستخدم لحماية الضعفاء. لكن الواقع كان صادمًا بطريقة مدمرة.هذا الاقتباس يُعبّر بصدق عن لحظة التوتر بين الحلم والضمير، حين كانت جليندا تحاول أن تثني إلفابا عن قرارها بمواجهة النظام، مفضّلة أن تحمي صديقتها من المصير القاسي، حتى لو كان الثمن هو الصمت، مع ذلك رفضت إلفبا كلام جليندا بعد محاولتها إقناعها بالتخلي عن مبادئها لأجل حلمها القديم عندما ردت عليها وقالت:
"I know. But I don't want it. No... I can't want it anymore."
هذا الرد يُجسد لحظة تحوّل داخلية قوية؛ فإلفابا تدرك أن حلمها بأن تكون مع الساحر، وأن تُقبَل ضمن المنظومة، يتعارض جذريًا مع ما تؤمن به. لقد اختارت ضميرها، حتى ولو كان الثمن هو فقدان كل ما حلمت به.
"It’s me. So if you care to find me, look to the Western sky! Because someone told me lately: everyone deserves the chance to fly."
هذا الاقتباس يلخص روح الفيلم: التحرر، المقاومة، وتحدي الصورة النمطية. إلفابا لا تهرب، بل تعلن وجودها، وتتمسك بحقها في أن تعيش بطريقتها، رغم كل الأحكام المسبقة.
"وحتى وان كنت أطير بمفردي فأنا على الأقل أطير بحرية."
هذا الرفض لم يكن مجرد موقف أخلاقي، بل إعلان حرب على نظام كامل.
خلف الستار الضخم والصوت المرعب والتمثال المهيب، يقف رجل عادي جاء من عالم آخر ليجد في أرض أوز فرصته الذهبية لبناء إمبراطورية من الأوهام. الساحر أوز لا يملك قدرات سحرية، لكنه يملك شيئًا أقوى: فهمًا عميقًا لسيكولوجية الجماهير وقدرة استثنائية على التلاعب بها.
شخصية جليندا: بين الحق والمجاملة:
تُقدِّم لنا شخصية "جليندا" نموذجًا معقَّدًا ومؤلمًا
للإنسان الذي يُمزَّق بين مبادئه ومصالحه. بدأت كفتاة متغطرسة، تهتم بالمظاهر
والمكانة أكثر من الحقائق، وتقول في إحدى لحظات غرورها:
"It’s not
lying. It’s looking at things another way."
لكن صداقتها مع
إلفابا غيّرتها تدريجيًا. بدأت تدرك أن النظام الذي تباركه وتخدمه هو نفسه الذي
يحارب صديقتها ويصفها بالساحرة الشريرة. شعرت بالصراع يتصاعد بداخلها، خاصة عندما
حاولت إقناع إلفابا بالعدول عن قرارها، قائلة:
"You can
still be with the Wizard... what you’ve worked and waited for."
لكن جليندا اختارت الطريق الأسهل: الصمت والمجاملة. لم تجد الشجاعة الكافية
لتقف مع الحق علنًا، مفضلة الحفاظ على مكانتها الاجتماعية على حساب صديقتها. عندما
كانت ترى الأمور تنهار، همست لنفسها في لحظة مرارة:
"I’m not
as brave as her."
هذا الموقف يثير تساؤلًا مهمًا: إلى أي مدى نصبح شركاء في الظلم حين نختار الصمت عليه؟
سلطة الإعلام: صناعة الحقيقة المزيفة:
يُظهر الفيلم بذكاء كيف يمكن للإعلام أن يصبح أداة قمع أقوى من السيف حين تُتهم إلفابا بسرقة كتاب السحر الجريمري، وإيذاء القردة الحُرّاس بتحويلهم إلى مخلوقات غاضب بأجنحة. لا يتساءل أحد عن دوافعها الحقيقية أو السياق الكامل لأفعالها. بل تتسارع الرواية الرسمية في تصويرها كمجرمة خطيرة وساحرة شريرة تسعى للخراب، فتتلقفها الجماهير دون تمحيص أو شك.
هذا المشهد يكشف خطورة الاعتماد على مصدر واحد للمعلومات، وكيف يمكن للسلطة أن تشكّل وعي الناس من خلال التحكم فيما يُقال ويُرى ويُسمع. في عالم تحكمه الصور والشعارات، لا تعود الحقيقة مهمة إذا كانت الكذبة أكثر إقناعًا وانتشارًا.
ما وراء القصة: حين يعكس الخيال حقيقتنا:
فيلم Wicked لا يحكي فقط قصة ساحرة خضراء في عالم خيالي، بل يضع مرايا أمام عالمنا الحقيقي. التساؤل الجوهري الذي تطرحه جليندا في بداية الفيلم يُلخّص كل شيء:هذا السؤال يدعونا للتفكير العميق في طبيعتنا الإنسانية، وفي الظروف التي تشكل هويتنا وتدفعنا أحيانًا لاتخاذ مواقف لا تعكس جوهرنا الحقيقي.
كم
من مرة صدقنا الرواية الرسمية دون تساؤل؟ كم من مرة حكمنا على أشخاص بناءً على
مظهرهم أو خلفيتهم؟ كم من "إلفابا" شوهناها في تاريخنا، وكم من
"ساحر أوز" منحناه ثقتنا العمياء لأنه ببساطة "يبدو جديرًا
بها"؟
إلفابا
نفسها، عندما كانت تواجه تلك اللحظة الحاسمة من الاختيار، قالت:
الفيلم
لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح الباب للتفكير في مفاهيم مثل العدالة، والسلطة،
والمقاومة. إنه يذكّرنا بأن الوقوف مع الحق ليس دائمًا الطريق الأسهل، بل الطريق
الأصعب والأكثر وحدة. ولكن كما تقول إلفابا بقوة وكرامة في لحظة تحررها:
وحق الطيران هنا ليس فقط بالمعنى السحري، بل هو استعارة للحرية، والكرامة، والاختيار.
خاتمة: إعادة تعريف البطولة:
في النهاية، فيلمWicked يعيد تعريف مفهوم البطولة. البطل الحقيقي ليس من يحتفل به الجمهور، بل من يقف مع مبادئه، حتى لو واجه العالم كله. إلفابا لم تصبح "شريرة" لأنها غيرت طبيعتها، بل لأن المجتمع اختار أن يراها كذلك.