" سراب "
بقلم/ إسلام رزق
تصميم غلاف: سارة عثمان
نَص القصة
"سراب"
إليك أنت. أنا هادي حازم، مراهق صغير تخطى الخامسة عشر منذ يومين، وجرت العادة أن لا أحد يرغب فى مرافقتي أو يتفقدني، فأقضي معظم اليوم وحيداً فى غرفتي المطلّة على الفناء الخلفي لحديقة المنزل؛ لأراقبها وهى تبطئ من حركتها رويداً رويداً، وتستمر فى مراوغته إلى أن تبوء جميع محاولاتها بالفشل، ويتمكن الجبل من أن يسرقها ككل مشهد غروب.
تلك هى الشمس، وذلك هو المشهد الوحيد الذى أراقبه باستمرار كلما تكرر وتقدم بى العمر.
وبحكم تلك العادة وأننى شخص مصاب بالتوحد، لا أقدر على مواكبة أقراني وأبناء أعمامي فى اللعب أو الحديث، كما أهملني الوالدان أيضاً لانشغالهم بمنافسة أعمامي، فأناقش يومياً جدران غرفتي حتى تسنح لى الفرصة للهرب منها؛ بعدما قررت أمى ألا أعود للمدرسة مرة أخرى بسبب التنمّر...
***
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
ثم أحول نظرى بعد ذلك لأراقب جدّي الذى أنهى عامه التسعين منذ يومين هو الآخر، فقد وُلدنا فى نفس اليوم، لأجده لا يختلف حاله كثيراً عنى، حيث أن كلانا يعايش الوحدة بطريقةٍ مختلفةٍ، ونتغلب عليها بأسلوبٍ خاصٍ، ولكن لا تسمح لى أمى بمجالسته فهى تخبرنى دوماً: بأنه أُصيب بالهذيان! والجنون! فهو يتحدث دوماً مع ابنة الراحل " عاصم "!
وتوجه إليه الخادم ليقدم له الطعام ، فقال له جدّي: هل رأيت عاصم
الخادم: لا، لقد سافر منذ أيام.
جدّي: أنت كاذب، لم يسافر عاصم ، وإنما هلك! وأنا من قتله!
وذلك كان تطوراً كبيراً فى حالته، فأراه بين الحين والآخر يتحدث إليه، ولكن عندما يقول: بأنه قتله! ذلك هو الغريب حقاً، فالكل يعلم جيداً أنه مات فى حادثٍ صعبٍ منذ عام.
وأشار إلىّ جدّى إشارة اطمئنان، لأقفز من الشرفة التى تقترب بشدة من الأرض، وأرافقه بعد رحيل الخادم، لنتشارك الطعام سوياً فلا أحد يكترث بى غيره.
♕♕♕
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
ثم بدأ الحديث كعادته مع ابنه الراحل، فقال: أعتذر منك كثيراً يا ولدى، وأرجو أن تغفر لى خطأى.
ومن الواضح أنه تلقى جابه! فتغيرت ملامحه وبدأ يبكى مردداً: لقد كنت تحت سطوته!...
♕♕♕
ولم أتحصل على شئ هذه المرة، بعدما اقتحمت أمى المكان لتأخذنى عُنوة، وهى تغمغم بكلماتها الوضيعة: لا يكفى أنك متخلّف! لتصاب الجنون بمرافقتك له! وبعدها جاء أبي لينهي ما بدأته أمى بضربى لمخالفة القواعد!
فعُدتُ إلى غرفتى لأواجه ذنب لم أقترفه! بعقوبة ٍلا أستحقها! ولا أقدر على فعل شئ سوى العودة إلى شرفتي التي تم إحكامها لمراقبة السماء بنجومها المضيئة، والجبل الذى أظلم الكون بعد سرقته للشمس، وأما جدّى فقد نسيه الجميع ولم يُدخله أحد إلى غرفته!
♕♕♕
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
ومع شروق شمس اليوم التالى، وذلك هو المشهد الذى أتمنى رؤيته، لأرى معه تحرر الشمس كما يخبرنى جدّى، ولكن أعلم بذلك مع خروج الطيور من أعشاشها بحثاً عن يومٍ جديدٍ؛ رحل الجميع، فمنهم من ذهب إلى عمله ومنهم من ذهب إلى دراسته، فتسللت متجاهلاً ما قد يحل بى، لأشارك جدّى وجبة الإفطار فهو يقول دوما أن أهم طعام هو طعام الصباح الباكر، نقضى اليوم سوياً، ولنا ما يحمينا من حرارة الشمس صيفاً، وسهام السماء شتاءً.
كنت أختلف كثيراً فى أمر جدّى، واعتقدت فى أول الأمر كما اعتقد الجميع أنه أصيب بالهذيان برحيل ولده، بعدما بدأ فى محادثته كالأحياء! تارة، ويسألهم: متى يعود؟! وأين هو الآن؟! تارة أخرى، ولكن كثرة الإنصات إليه فتحت مدارك العقل لأشياء مهمة.
وتكاثرت أسئلته ومتطلباته، وذلك ما جعل الجميع يتركه كرهاً دون عناية أو مرافقة! كما أن لديهم ما هو أهم ويشغلهم عنه! .. ولا يرغب أحدهم فى تفقده أو حتى إلقاء نظرة خاطفة، فكان هذا المكان لنا بمثابة الملجأ الوحيد للهرب من عالمهم، وإذا ما أرادت أمى إيجادى، تأتى إلى هنا لتوبخنى.. لكننى تفاجأتُ بوالدى هذه المرة قادماً، يعلو وجهه بركانٌ من الغضب مفجراً إياه فى وجهنا، وليس على اخبارك بما فعله بى...
وما لم يتحمله جدّى مشادةً عنيفةً وقعت بين أولاده لاختلافهم فى تقسيم الميراث! فكان يريد ثلاثتهم أخذ الأرض الجنوبية لما يميزها، واحتد الحوار بينهم ليُنقل على إثره أحدهم إلى المشفى بحالٍ حرجٍ فى غرفة العناية المركزة...
وسمعت جدّى يكرر: أنا من قتله! بعدما فارق الحياة هو الآخر، وما هى إلا أيامٍ قليلة ثم رحل ليلحق بهم، ولم يعد لى أحد الآن، أو أتلقى أية تهديداتٍ من أحد، لذلك لم أبرح مكانه وجلست فى نفس المكان لأراقب مشهد الشروق والذى أراه لأول مرة تقريباً.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
فلم أتحمل أشعة الشمس، وظهر أن عقلى بدأ فى الهذيان هو الآخر، عندما رأيت جدى مقبلاً من خلف الشمس، كما لو أنه كان فى مهمةٍ لتحريرها، ينظر إلىّ مباشرةً نظرة صارمة، ومن الواضح أنه نجح فى ذلك.. وكان المكان على نفس الهيئة التى تركه جدّى عليها، فعدتُ إلى مكانى وتركت له مكانه، ظلّ يتابعنى بعينيه لفترة، ثم بدأ فى محادثة عمى الكبير كما كان يحدثه سابقا! وكنت أرى جدى بوضوح ولكن لا أرى عمى مطلقا أو أتحسس له صوت.
فأدار جدى وجهه ليحدثنى: هل لا زلت تعتقد بأن جدك يهذى يا صغير؟! أعتقد بأن الفترة التى قضيناها معاً تكفى لتخبرك بما فى داخلى.
أنا: فى الحقيقة أعلم جيدا ما يجرى حولى! ولماذا لا يرغب بنا الجميع؟! ولكن ما هو أسوأ، عندما حاولت إصلاح الأمور وصفنى الجميع بك!
وتابعت ساخراً: أو يضربنى أبى!
الجد: لم أُجن قط يا صغير، ولم أكن أحدث عمك! وإنما كنت أحدثهم! محاولاً مخاطبة ما تبقى من الخير بداخلهم، إلا أن الأوان قد فات... وأعتذر منك كثيراً يا صغير! فأنا السبب فى كل هذا! وكل ما هو أسوأ! وسوف يحدث!
أنا: لقد أخبرتنى بها سابقا ولم أفهمها
" فى داخل كل منا ذئبان يتصارعان، وسوف ينتصر فيهم الذى تطعمه ".
جدى: وبطريقة غير مباشرة جعلت عاصم يطعم الذئب الخاطئ - ذئب الطمع - وكلما مر الوقت اذداد الطمع سطوة وسيطرة، واستطاع أن يتحكم فيه ويوجهه لما يريده، وفارق الحياة أثناء إبرامه صفقة بثمن بخس، نسبة إلى ما يكنزه من ملايين.
لقد أنشأت أولادى على قانون خاطئ ومبدأ مزيف قد نشأت عليه، فأجبرتهم على كنز أكبر ما يمكنهم جمعه من الأموال فى فترة الشباب، لتنفعهم فى ما هو قادم على الرغم من الثروة الطائلة التى نملكها، ولم أدر مع مرور الوقت أنها أصبحت عادتهم، وأن ذلك هو المبدأ الأهم فى حياتهم - كنز المال - واستطاع الإبن الأكبر أن يكنز كمية كبيرة من المال قبل الثلاثين، وعندما أيقنت خطأى وتوجهت إليه بالنصيحة للتوقف عن تلك العادة، كان الأوان قد فات، فبجهلى كنت أنشئ وحشاً خفيا داخله لا أعلم قوته، ووضعته على أسوأ الطرق للهلاك، فظل يسير على هذا النهج إلى أن فارق الحياة قبل بلوغه الخامسة والثلاثين.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
ولكنه الطمع كما أخبرتك يا صغير، فانقلبت به السيارة أثناء القيادة فى حادث صعب، بعدما كان يسابق الزمن من أجل المال!
ولم أكتفى بذلك! وقمت بالمثل مع الأبناء الأخرين، وبدورهم يربوا صغارهم على هذا المنهج، لذلك لم يكن يملك أحدهم الوقت للمكوث معى، ويقولون: عجوزٌ قد هرم! واختل عقله! وكنت أتوقع أن يحدث الأسوأ...
فتجنب أن تقع فى مثل هذه الأخطاء الفادحة يا صغير! ولا تطعم أبناءك الهلاك عندما تكبر بحب المال!
أنا: ولكنك أخبرتنى بأننا نحن البشر نخطئ كثيراً!
جدى: لا أقول أنك لن تخطئ، فلا يوجد معصوم، وطالما هناك بشر تكون الأخطاء، ولكن الأهم ألا تستمر عليه وتعود عنه، وتلك هى القوة الحقيقية؛ لأن النتيجة لاستمرارك عليه مع علمك به أسوأ مما تتوقع.
وإذا كنت ترى أن أهم الأدوار فى الحياة هو كنز الأموال، وأن الارتقاء بحسب ما تملكه منه، وقد أصبحت المادة هى سمة العصر، وأهم شئ فى مجتمعنا اليوم..
كن ذكيا! وضع الأموال فى يدك! لا فى قلبك!.
لقد انتهى جدى من كلماته، والآن لدى سؤال مهم، هل تعتقد حقاً أن جدى يتحدث إلى؟!
إذا كانت إجابتك بنعم، فأنت على خطأ! لأني أحفظ تلك الكلمات عن ظهر قلب، وليس لدى نية فى نسيانها.
وإذا كنت تعتقد أنه يحدث أعمامي كما كان يفعل سابقاً، فأنت على خطأ للمرة الثانية!
وفى حال لم تجد الإجابة، فأعد قراءة الجملة الأولى من القصة...